فطرة الغني وفطرة الفقير /د. المختار المهدي

سأحاول من خلال هذه الأسطر أن أشير إلى ملمح مهم يتعلق بزكاة الفطر، وهو أنني دائما ما كنت أستشكل أن يكون الغني يؤدي زكاة فطره نفس تأدية الفقير لها، فلا يكون تفاضل بينهما في مقدار أو نوعية الفطرة!، وأقول لنفسي هذا لا يستقيم!، فلو كان الدين بالرأي أو المنطق لما ساوت "فطرة الغني" "فطرة الفقير"، وإني لأعجب تمام العجب أن أرى غنيا موسرا يبذل حفنة من قمح أو أرز لا تساوي قيمتها شيئا في جنب ما يملك وما يحوز من أموال، لكنني لم أكن لأحسم في هذا الامر أو أجزم في التفاضل إلا عن بينة ودليل، فلربما كان فرض زكاة الفطر هكذا!، إلى أن اهتديت إلى جملة آيات يمكن أن تكون فيصلا وقاعدة في الإنفاق الشرعي عموما، فأنا أذكر بها دون أن أجزم بشيء في تفاضل فطرة الغني والفقير، غير أني أضعها للنظر والاعتبار.

ولقائل أن يقول إن زكاة الفطر قد حددها صلى وسلم بكيل معين، وأصناف معنية من الطعام، فكانت في حق الغني والفقير على حد السواء، لكن تحديده صلى الله عليه وسلم لا يعكر على مبدأ التفاضل إذ تتفاضل تلك الأصناف بينها، وحتى الصنف الواحد ترى فيه تفاضلا كبيرا، فمن الأطعمة التي ورد النص عليها في زكاة الفطر "التمر" ومن المعلوم أن أصنافه تتفاضل تفاضلا كبيرا، فهل تكون فطرة الغني مساوية لفطرة الفقير في ذلك؟! أم أن الضابط في ذلك ليس حال المنفق؟، وإنما تلك الحال المتوسطة التي ليست حالة شح أو سرف، وهذا الميزان أعني ميزان الشح والسرف نسبي، إذ حال سرف الفقير ليس مثل حال سرف الغني، وشح الغني ليس شحا بالنسبة للفقير، وعليه، فلو قلنا إن الإنفاق جار على الوسط المجافي للشح والسرف، فإن هذه الحال حتما تختلف بين الغني والفقير، لكن لننظر ما ذا تقول الآيات في شأن الإنفاق، ونحن سنورد هذه الآيات على سبيل التمثيل فقط، وأشير هنا إلى أن الآيات التي سأذكر قد تكون في سياقات مختلفة غير أنها في عمومها تصلح لأن تكون ضابط إنفاق شرعي.

أولا: هناك آيات ندبت إلى التوسط في الإنفاق بين الإقتار والإسراف، وما من شك أن هذا الوسط مختلف بين حال الغني وحال الفقير قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } [الفرقان: 67]. وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29].

وما من شك أن التوسط والقصد المطلوب في الإنفاق عموما يشمل بعمومه زكاة الفطر، وأن حال التوسط تختلف ضرورة بين الغني والفقير، وعليه فيكون التساؤل مشروعا عن ذلك التفاضل.

ثانيا: هناك آيتين قد بينتا شأن الفضل في الإنفاق، فندبت إحداهما إلى الإنفاق مما يحبه الإنسان ويصطفيه من ماله، ومن المعلوم أن الإنسان إنما يصفي من ماله الكرائم الجياد، قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران: 92]. ففي شأن الإنفاق ندبت هذه الآية إلى الإنفاق مما يحب الإنسان ويؤثر من ماله، ومثلها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267].

وندبت الأخرى إلى اجتناب الإنفاق من خبيث المال، قال تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } [البقرة: 267]. فنهت هذه الآية أن يقصد الإنسان إلى خبيث ماله فينفق منه.

ثالثا: قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}[المائدة: 89].

هذه الآية نزلت في شأن كفارة اليمين حيث الحانث يطعم أو يكسو عشرة مساكين، لكن ما يهمنا في الآية، هو قاعدة الإنفاق، حيث قررت الآية قاعدتين في الإنفاق الشرعي، وهما: أولا: مبدأ التوسط، حيث قررت أن المكفر عن يمينه مطالب أن يلتزم الوسط فيما سيبذله للمساكين من كسوة أو طعام، فلا يقتر ولا يسرف.

أما القاعدة الثانية فهي أن الآية قد جعلت المنفق هو مرجع التقدير في ذلك فقال تعالى: "مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ " فقد يكون المنفق مسيكا يقتر على أهليه فهو منهي عن أن يقتر على المساكين كما يقتر على أهله، وقد يكون كريما ينفق على أهله بسخاء ويغدق عليهم في الإنفاق، فهو غير مطالب بأن يساوي المساكين بأهله، لكن ينفق إنفاقا وسطا، ومن المؤكد أن الوسط نسبي وأنه يختلف بين الغني والفقر.

رابعا: قوله تعالى: { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236].

هذه الآية في شأن بذل المتعة للمطلقة، وقد نصت على أن المتعة تكون بحسب حال المطلق ضيقا وسعة، فيبذلها على حسب قدره ووسعه في الإنفاق غنيا أو فقيرا، وما يهمنا في هذه الآية هو أنها قد قررت الفرق في الإنفاق بين الغني والفقير، ولئن قررتها في باب المتعة فقد قررت آية أخرى المبدأ ذاته في شأن الإنفاق على المطلقة، فقال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا } [الطلاق: 7].